كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال سبحانه: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها} أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أهل الذمة {أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ} على أولياء الميت {بَعْدَ أَيْمانِهِمْ} فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا. وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل. وبعضهم يذهب إلى أنه منسوخ بقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} [البقرة: 282].
في سورة الروم: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم: 28].
هذا مثل ضربه اللّه لمن جعل له شركاء من خلقه، فقال قبل المثل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] يريد: إعادته على المخلوق أهون من ابتدائه، لأنه ابتدأه في الرحم نطفة، وعلقة، ومضغة، وإعادته تكون بأن يقول له: {كُنْ فَيَكُونُ} [الأنعام: 73] فذلك أهون على المخلوق من النشأة الأولى. كذلك قال ابن عباس في رواية أبي صالح. وإن جعلته للّه، جعلت أهون بمعنى: وهو هيّن عليه، أي سهل عليه. {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى} [الروم: 27] يعني: شهادة أن لا إله إلا اللّه. ثم ضرب المثل فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وذلك أقرب عليكم هل لكم من شركاء من عبيدكم الذين تملكون {فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ} وعبيدكم {سَواءٌ} يأمرون فيه كأمركم، ويحكمون كحكمكم، وأنتم {تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي كما يخاف الرجل الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما، فلا يأمر فيه بشيء دون أمره، ولا يمضي فيه عطيّة بغير إذنه. وهو مثل قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين. وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] أي بأمثالهم من المؤمنين. يقول: فإذا كنتم أنتم بهذه المنزلة فيما بينكم وبين أرقائكم، فكيف تجعلون للّه من عبيده شركاء في ملكه؟ ومثله قوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} فجعل منكم المالك والمملوك {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} يعني: السادة {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} [النحل: 71] من عبيدهم حتى يكونوا فيه شركاء. يريد: فإذا كان هذا لا يجوز بينكم، فكيف تجعلونه للّه؟.
في سورة النحل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا} وَجَهْرًا [النحل: 75].
هذا مثل ضربه اللّه لنفسه ولمن عبد دونه، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ} فهذا مثل من جعل إلها دونه أو معه لأنه عاجز مدبّر، مملوك لا يقدر على نفع ولا ضرّ.
ثم قال: {وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75].
فهذا مثله جل وعز لأنه الواسع الجواد القادر، الرّازق عباده جهرا من حيث يعلمون، وسرا من حيث لا يعلمون.
وقال بعض المفسرين: هو مثل للمؤمن، والكافر. فالعبد: هو الكافر، والمرزوق: هو المؤمن.
والتفسير الأول أعجب إليّ، لأن المثل توسّط كلامين هما للّه تعالى أمّا (الأوّل) فقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73].
فهذا للّه ومن عبد من دونه. وأمّا الآخر فقوله بعد انقضاء المثل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 74].
ولأنه ضرب لهذا المعنى مثلا آخر بعقب هذا الكلام فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ} أي: أخرس {لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ} أي: عيال وثقل على قرابته ووليّه {أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل: 76]. فهذا مثل آلهتهم، لأنها صمّ بكم عمي، ثقل على من عبدها، في خدمتها والتّعبّد لها، وهي لا تأتيه بخير. ثم قال: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] فجعل هذا المثل لنفسه.
في سورة النحل أيضا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92].
هذا مثل لمن عاهد اللّه وحلف به، فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها} [النحل: 91] فتكونوا إن فعلتم كامرأة غزلت غزلا وقوّت مرّته وأبرمته، فلما استحكم نقضته، فجعلته أنكاثا. والأنكاث: ما نقض من أخلاق بيوت الشعر والوبر ليغزل ثانية ويعاد مع الجديد، وكذلك ما نقض من خلق الخزّ. ومنه قيل لمن أعطاك بيعته على السمع والطاعة ثم خرج عليك: ناكث، لأنه نقض ما وكّد على نفسه بالإيمان والعهود، كما تنقض النّاكثة غزلها.
ثم قال: {تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أي: دغلا وخيانة وحيلا {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} أي: لأن يكون قوم أغنى من قوم، وقوم أعلى من قوم، تريدون: أن تقتطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء.
وقال المفسرون في التي نقضت غزلها: هي امرأة من قريش وكانت حمقاء، فكانت تغزل الغزل من الصوف والشّعر والوبر بمغزل في غلظ الذّراع، وصنّارة في قدر الإصبع، وفلكة عظيمة، فإذا أحكمته أمرت خادمها فنقضته.
في سورة الصافات: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65)} [الصافات: 64، 65].
طلعها: ثمرها، سمّي طلعا لطلوعه كلّ سنة، ولذلك قيل: طلع النخل، لأوّل ما يخرج من ثمره، فإذا انتقل عن ذلك فصار في حال أخرى، سمى باسم آخر. والشياطين: حيّات خفيفات الأجسام قبيحات المناظر.
قال الشاعر وذكر ناقة:
تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه ** تعمّج شيطان بذي خروع قفر

يعني: زماما، شبّه تلوّيه بتلوّي الحيّة.
وقال آخر:
عجيّز تحلف حين أحلف ** كمثل شيطان الحماط أعرف

والحماط: شجر. والعرب تقول إذا رأت منظرا قبيحا: كأنه شيطان الحماط.
يريدون حيّة تأوى في الحماط، كما يقولون: أيم الضّال، وذئب الغضى، وأرنب خلّة، وتيس حلّب، وقنفذ برقة.
وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد الشياطين بأعيانها. شبّه ثمر هذه الشجرة في قبحه، برؤوسها، وهي إن لم تر، فإنّها موصوفة بالقبح، معروفة به.
في سورة النساء: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79].
الحسنة هاهنا: الخصب والمطر. يقول: إن أصابهم خصب وغيث قالوا: هذا من عند اللّه. والسيئة: الجدب والقحط. يقول: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك}. أي بشؤمك، يقول اللّه تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه}. ومثل هذا قوله حكاية عن فرعون وملئه: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ [الأعراف: 131] يريد إذا جاءهم الخصب والمطر قالوا: هذا هو ما لم نزل نتعرّفه.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] أي يتشاءمون بهم.
{أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] أي ما تطيّروا بموسى- لمجيئه- من عند اللّه. ونحو قوله: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها} أي: خصبا وخيرا.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب وقحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بذنوبهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:
36].
ثم قال: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي من خير {فَمِنَ اللَّهِ}، {وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} أي من شر {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النّساء: 79] أي بذنبك. الخطاب للنبي، صلّى اللّه عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بيّنت في باب الكناية.
في سورة يونس: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)} [يونس: 11].
يريد أن الناس عند الغضب وعند الضّجر، قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وبالخزي وتعجيل البلاء، كما قد يدعونه بالرزق والرحمة وإعطاء السّؤل. يقول: فلو أجابهم اللّه إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير- لقضي إليهم أجلهم، أي لهلكوا. وفي الكلام حذف للاختصار، كأنه قال: ولو يعجّل اللّه للنّاس إجابتهم بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير، لهلكوا.
في سورة هود: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)} [هود: 17].
هذا كلام مردود إلى ما قبله، محذوف منه الجواب للاختصار، على ما بيّنا في (باب المجاز).
وإنما ذكر اللّه تعالى قبل هذا الكلام قوما ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها عوضا من الآخرة فقال: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)} [هود: 15]. أي نؤتيهم ثواب أعمالهم في الدنيا، إذ كان عملهم لها وطلبهم ثوابها، وليس لهم في الآخرة إلا النار.
{وَحَبِطَ ما صَنَعُوا} فِيها أي ذهب وبطل، لأنهم لم يريدوا اللّه بشيء منه. ثم قايس بين هؤلاء وبين النبي صلّى اللّه عليه وسلم وصحابته فقال: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} يعني محمدا، صلّى اللّه عليه وسلم. {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} أي من ربّه. الهاء مردودة إلى اللّه تعالى. والشاهد من اللّه تعالى للنبي، صلّى اللّه عليه وسلم: (جبريل عليه السلام)، يريد أنه يتبعه ويؤيّده ويسدّده ويشهده. ويقال: الشاهد: (القرآن) يَتْلُوهُ يكون بعده تاليا شاهدا له. وهذا أعجب إليّ، لأنّه يقول: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى} يعني التوراة. إِمامًا وَرَحْمَةً قبل القرآن يشهد له بما قدّم اللّه فيها من ذكره. والجواب هاهنا محذوف. أراد أفمن كانت هذه حاله كهذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إذ كان فيه دليل عليه. ومثله قوله: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وَقائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ}، ولم يذكر الذي هو ضده؟ لأنه قال بعد: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. فالقانتون آناء الليل والنهار هم الذين يعلمون، وأضدادهم، هم الذين لا يعلمون، فاكتفى من الجواب بما تأخّر من القول، إذ كان فيه دليل عليه.
وقوله: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، يعني أصحاب محمد، صلّى اللّه عليه وسلم، يؤمنون بهذا. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ}، يعني مشركي العرب وغيرهم. {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}، أي في شك. {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، الخطاب للنبي، صلّى اللّه عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بينا في (باب الكناية).
في سورة الأنعام: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)} [الأنعام: 154].
أراد: آتينا موسى الكتاب تماما على المحسنين، كما تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج، تريد الغازين الحاجّين، ويكون (الذي) في موضع من كأنه قال: تماما على من أحسن. والمحسنون: هم الأنبياء، صلوات اللّه عليهم أجمعين، والمؤمنون. و(على) في هذا الموضع بمعنى (لام الجر) كما يقال: أتمّ اللّه عليه وأتمّ له قال الرّاعي:
رعته أشهرا وخلا عليها ** فطار النّيّ فيها واستغارا

أراد: وخلا لها.
وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميما منّا للأنبياء وللمؤمنين- الكتب. {وَتَفْصِيلًا} منّا {لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} وقد يكون أن تجعل (الذي) بمعنى ما أي آتينا موسى الكتاب تماما على أحسن من العلم والحكمة وكتب اللّه المتقدمة. وأراد بقوله: تَمامًا على ذلك، أي زيادة على ذلك. والتأويل الأول أعجب إليّ، لأنه في مصحف عبد اللّه: تماما على الذين أحسنوا. وفي هذا ما دل على ذلك التأويل. وقد ينصرف أيضا إلى معنى آخر، كأنه قال: آتيناه الكتاب إتماما منّا للإحسان على من أحسن.
في سورة المائدة: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33].
المحاربون للّه ورسوله: هم الخارجون على الإمام وعلى جماعة المسلمين، يخيفون السّبل، ويسعون في الأرض بالفساد. وهم ثلاثة أصناف:
رجل قتل النفس ولم يأخذ مالا.
ورجل قتل النفس وأخذ المال.
ورجل أخذ المال ولم يقتل النفس.
فإذا قدر الإمام عليهم فإنّ بعضهم يقول: هو مخيّر في هذه العقوبات، بأيّها شاء عاقب كل صنف منهم.
وكان بعضهم يجعل لكل صنف منهم حدّا لا يتجاوزه إلى غيره:
فمن قتل النفس ولم يأخذ المال قتل، لأن النفس بالنفس.
ومن قتل وأخذ المال: صلب إلى أن يموت، فكان الشّهر له بالصّلب جزاء له بأخذه المال، وقتله جزاء له بقتله للنفس.
ومن أصاب المال ولم يقتل، فإن شاء الإمام قطع يده اليمنى جزاء بالسّرق، ورجله اليسرى جزاء بالخروج والمجاهرة بالفساد. وإن شاء نفاه من الأرض.
وقد اختلفوا في نفيه من الأرض، فقال بعضهم: هو أن يقال: من لقيه فليقتله.
وقال آخر: هو أن يطلب في كل أرض يكون بها، وقال آخر: هو أن ينفى من بلده، وقال آخر: هو أن يحبس، قال أبو محمد: ولا أرى شيئا من هذه التفاسير، أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس، لأنّه إذا حبس ومنع من التصرّف والتقلّب في البلاد، فقد نفي منها كلّها وألجئ إلى مكان واحد. وقال بعض المسجونين:
خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدّنيا

ومن جعل النفي له أن يقال: من لقيه فليقتله، أو أن يطلب في كل أرض يكون بها- فإنه يذهب- فيما أحسب- إلى أنّ هذا جزاؤه قبل أن يقدر عليه، لأنّه لا يجوز أن يكون الإمام يظفر به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله. أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض.
وإذا كان هذا هكذا اختلفت العقوبات فصار بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه. وأشبه الأشياء أن تكون كلّها فيمن ظفر به.